فصل: فصل في كراء الأرض وفي الجائحة فيه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.فصل في كراء الأرض وفي الجائحة فيه:

قال في المقدمات: قد اختلف أهل العلم في جواز كراء الأرض اختلافاً كثيراً فقيل: لا يجوز كراؤها أصلاً بذهب ولا فضة ولا بشيء من الأشياء لنهيه عليه الصلاة والسلام عن كراء المزارع، وقيل: لا يجوز كراؤها إلا بالدنانير والدراهم خاصة. وقيل: يجوز بكل شيء إذا كان معلوماً ما عدا الطعام، وقيل: يجوز بكل شيء إذا كان معلوماً ولو طعاماً، وإنما لا يجوز بالجزء مما يخرج منها لأنه غرر وهو مذهب الشافعي وهو ظاهر قول مالك في المساقاة من موطئه، وقيل: يجوز بكل شيء ولو طعاماً وبالجزء مما يخرج منها كان طعاماً أم لا. وبه قال الليث. وأخذ به أكثر الأندلسيين وهي إحدى المسائل التي خالفوا فيها مالكاً، وقيل: وهو مذهب مالك وأكثر أصحابه أنه يجوز كراؤها بالدنانير والدراهم والعروض والثياب والحيوان ما عدا كراءها بالطعام وإن لم تنبته كالسمن والزيت وبما تنبته ولو غير طعام كالقطن والكتان اه باختصار. وتقديم وتأخير وعلى قول مالك وأكثر أصحابه عول (خ)، إذ قال عاطفاً على المتع ما نصه: وكراء الأرض بطعام أو بما تنبته إلا كخشب إلخ. وعليه درج الناظم أيضاً فقال:
والأرْضُ لا تُكْرَى بِجُزْءِ تُخْرِجُهْ ** والفَسْخُ مَعْ كِرَاءٍ مِثْلِ مَخْرَجُهْ

(والأرض لا تكرى بجزء تخرجه) ككرائها لمن يحرثها زرعاً أو مقثأة أو قطناً أو كتاناً مثلاً على أن لربها النصف أو الربع من ذلك الذي يخرج منها (و) إن وقع ذلك ونزل واطلع عليه قبل حرثها فالفسخ ليس إلا وإن فاتت بحرثها فالزرع أو المقثاة كله للمكتري وعليه لربها كراء المثل عيناً. هذا إن اكتراها لسنة واحدة فإن اكتراها بجزء مما تخرجه سنين واطلع على ذلك في أثنائها ف (الفسخ) لباقي الأعوام (مع كراء مثل) عيناً لماضيها (مخرجه) بفتح الميم والراء أي ذلك هو وجه الخروج منه، وبهذا التقرير ينتفي ما يقال أن الفسخ لا يجامع كراء المثل كما هو ظاهره إذ كراء المثل إنما يجب مع الفوات لا مع الفسخ كما يقتضيه كلامه إذ الفسخ إنما يجب قبل الفوات.
ولا بِما تنبُتُهُ غَيْرَ الخَشَبْ ** مِنْ غَيْرِ مَزْروعٍ بِها أوِ الْقَصَبْ

(ولا) تكرى أيضاً (بما تنبته) ولو غير طعام كقطن وكتان وقصب وتبن وعصفر وزعفران أي مما شأنه أن ينبت فيها ولو لم يصلح لزراعته في هذه الأرض المكتراة فإنه لا يجوز كراؤها به (غير الخشب) بفتحتين مستثنى من عموم ما أي: فيجوز كراؤها به ولو كانت تنبته ومثله العود والصندل والحطب والحشيش والحلفاء والقصب. قيل لسحنون: ولم جاز كراؤها بهذه الأشياء وهي كلها مما تنبته الأرض؟ فقال: هذه الأشياء يطول مكثها ووقتها فلذلك سهل فيها وقوله: (من غير مزروع بها) بيان لما وقوله. (أو القصب) عطف على الخشب والتقدير والأرض لا تكرى بجزء تخرجه مما هو مزروع بها ولا بما تنبته من غير مزروع بها كقطن وكتان لا يصلحان للزراعة في هذه الأرض المكتراة بخصوصها وأحرى في عدم الجواز إذا كانا يصلحان للزراعة فيها إلا الخشب والقصب ونحوهما من صندل وحلفاء، فيجوز كراؤها بذلك فقوله ولا بما تنبته معطوف على بجزء من عطف المغاير لا من عطف عام على خاص كما لا يخفى، إذ معنى المعطوف أنه أكراها منه بعشرة أرطال من قطن أو كتان كانت الأرض تصلح لزراعتهما وزرعا فيها أو لا تصلح لذلك، وبهذا تعلم أنه لو حذف قوله من غير مزروع بها لكان أحسن.
ولا بِما كانَ مِنَ المَطْعُومِ ** كالشّهْدِ واللّبَنِ واللُّحْومِ

(ولا) تكرى أيضاً (بما كان من المطعوم) وإن لم تنبته ولا خرج منها (كالشهد واللبن واللحوم) والنبيذ والملح والفلفل وزريعة الكتان وزريعة الفجل وطير الماء الذي للذبح وشاة اللحم ونحو ذلك كما في ابن عرفة وغيره.
تنبيهات:
الأول: كان حق الناظم أن يؤخر قوله: والفسخ إلخ. عن هذا البيت وأن يحذف قوله: من غير مزروع بها كما مر فلو قال:
والأرض لا تكرى بجزء تخرجه ** أو بطعام هب بما لا تنبته

كذا بما تنبته غير الخشب ** وإن يفت فخرج مثل قد وجب

لكان أسهل وأخصر والخرج بسكون الراء لغة في الخراج أي الأجر.
الثاني: تقدم أن مذهب الليث وبه أخذ أكثر الأندلسيين جواز كراء الأرض بما يخرج منها وعليه رد الناظم بقوله:
والأرض لا تكرى بجزء تخرجه إلخ. ولكن عمل عامة الناس اليوم على مذهب الليث ومن أخذ به ولا يستطيع أن يردهم عن ذلك راد. ابن العربي: وأما كراء الأرض بجزء مما يخرج منها فهو مذهب فيه أحاديث كثيرة والمقنع فيها قوي، وذلك أنا رأينا الله تبارك وتعالى قد أذن لمن كان له نقد أن يتصرف في طلب الربح أو يعطيه لغيره يتصرف فيه بجزء معلوم فالأرض مثله، وإلاَّ فأي فرق بينهما وهذا قوي ونحن نفعله. اهـ. فانظر قوله: ونحن نفعله وهي إحدى المسائل التي خالف أهل الأندلس فيها مالكاً، ومنها توجيه يمين التهمة مطلقاً إلا فيما كان فيه معرة كالسرقة والغصب، ومنها توجه اليمين بدون خلطة، ومنها الحكم باليمين مع الشاهد إلى غير ذلك، وذكر آخر المفيد منها نحو الثمانية عشر وتقدمت في باب الضمان.
الثالث: قال في المدونة: من أكرى أرضه بدراهم أو دنانير مؤجلة فحلت فلا يأخذ بها طعاماً ولا إداماً وليأخذ ما يجوز أن تكرى به قال: ويجوز أن تكرى أرضك بأصول شجر ليس فيها ثمر، فإن كان فيها ثمر وقتئذ لم يجز كما كره مالك شراء شجر فيها ثمر بطعام عاجل أو آجل، ويجوز بيع رقبة الأرض بشجر فيها ثمر كما يجوز أن تباع بطعام عاجل أو آجل. اهـ.
الرابع: قال سحنون: من اكترى أرضاً بما يخرج منها فذلك جرحة في حقه، وتأوله أبو محمد بما إذا كان عالماً بالمنع وهو مذهبه أو قلد مذهب المانع وإلاَّ فلا انظر (ح) والشامل.
وتُكْتَرَى الأرْضُ لِمُدَّةٍ تُحَدْ ** مِنْ سَنَةٍ والعَشْرُ مُنْتَهَى الأَمَدْ

(وتكترى الأرض لمدة تحد من سنة) أو سنتين أو ثلاث (والعشر) سنين (منتهى الأمد) وظاهره كانت أرض سقي أو بعل اكتريت بشرط النقد أو بدونه، وظاهره أيضاً أنه لا يجوز كراؤها لأكثر من عشر سنين، وليس كذلك في هذا الأخير، ويقيد جواز شرط النقد في الأولين بما إذا كانت مأمونة. اللخمي: الأمد في المستأجر يختلف باختلاف الأمن والخوف في تلك المدة فأوسعها في الأجل الأرضون ثم الدور ثم العبيد ثم الدواب ثم الثياب، فيجوز كراء الأرض ثلاثين سنة وأربعين بغير نقد إلا أن تكون مأمونة الشرب فيجوز مع النقد ويجوز ذلك في الدور إذا كانت جديدة مأمونة البناء، وإن كانت قديمة فدون ذلك بقدر ما يرى أنه يؤمن سلامتها إليه في الغالب انظر (ح) عند قوله: وعبد خمسة عشر عاماً. وفي المتيطية الذي عليه العمل، وبه الحكم أنه يجوز كراء الرباع العشر سنين والعشرين عاماً وأزيد من ذلك ولا بأس بتعجيل الوجيبة كلها. هذا مذهب المدونة، وبه الحكم وذلك إذا كان الشيء المكترى ملكاً للمكري، وأما إن كان محبساً عليه وعلى غيره وجعل له السكنى فيه حياته، فلا يجوز أن يكريها بالنقد إلا سنة أو سنيتن، وجائز له أن يكريها إلى ما شاء من السنين وإن طالت إذا كان الكراء منجماً على المكتري، فكلما انقضى نجم دفع كراء أو كلما دخل نجم قدم كراء إذا كان النجم يسيراً السنة والسنتين على ما قدمناه. اهـ. وقد أشار (خ) إلى ضابط جواز النقد في مثل هذا بقوله: وجاز النقد فيه أي في الشيء المستأجر إن كان لا يتغير في مدة الإجارة غالباً. وقال في المقدمات: الكلام في الأرضين على ثلاثة أوجه جواز عقد الكراء وجواز النقد ووجوبه فأما جواز عقد الكراء فجائز على مذهب المدونة من غير تفصيل كانت أرض مطر أو غيرها مأمونة كانت أم لا. وأما جواز النقد فيها فإن كانت مأمونة كأرض النيل وأرض السقي بالأنهار والعيون والآبار وأرض المطر المأمونة يعني التي لا يتخلف عنها المطر غالباً كأرض المغرب فالنقد فيها للأعوام الكثيرة جائز، وأما غير المأمونة فلا يجوز النقد فيها إلا بعد أن تروى ويمكن من الحرث كانت من أرض النيل أو المطر أو السقي بالعيون والآبار، وأما وجوب النقد فإنه إنما يجب ويقضى به على المكتري في أرض النيل إذا رويت لأنها لا تحتاج إلى سقي فيما يستقبل، وأما أرض السقي والمطر فلا يجب على المكتري دفع الكراء حتى يتم الزرع ويستغني عن الماء، وكذا إذا كانت أرضاً تزرع بطوناً فلا يلزمه نقد الكراء في البطن حتى يستغني عن الماء. اهـ. باختصار. وبهذا تعلم أنه لا مفهوم لقول الناظم والعشر منتهى الأمد إلخ. ولا لقول (خ): وأرض مطر عشراً إن لم ينقد وإن سنة إلا المأمونة كالنيل أو المعينة فيجوز إلخ. فقوله: وأرض مطر عشراً إلخ. أي: وهي غير مأمونة إلخ. وقوله: وإن سنة مبالغة في مفهوم إن لم ينقد أي فإن نقد في غير المأمونة بشرط امتنع، وإن شرط نقد حصته سنة فقط فشرط النقد مؤثر في المنع سواء نقد بالفعل أم لا. وقوله: فيجوز أي فيجوز العقد والنقد ولو لأربعين سنة كما مر عن اللخمي والمتيطي.
وإن تَكُنْ شَجَرَةٌ بِمَوْضِعِ ** جازَ اكتِرَاؤُهَا بِحُكْمِ التَّبَعِ

(وإن تكن شجرة بموضع) من الأرض (جاز اكتراؤها) أي اشتراط ثمرتها (بحكم التبع) لكراء الأرض كما مر تفصيله في قوله: وشرط ما في الدار من نوع الثمر إلى قوله: وغير بادي الطيب إن قل اشترط إلخ. وهذا مبني على أن التابع يعطي حكم متبوعه أنه لا قسط له من الثمن، وأما على أنه يعطي حكم نفسه فلا إشكال أن له حصة من الثمن وعليه فلا يجوز اشتراطها لما فيه من شراء الثمرة قبل بدو صلاحها بل وقبل وجودها قاله (م).
تنبيه:
قال في الجواهر: وإذا استأجر أرضاً ليزرع فيها صنفاً سماه فله أن يزرع فيها غيره مما هو أقل ضرراً بالأرض لا ما ضرره أكثر فإن استأجرها للقمح أو غيره فزرع ما هو أضر بالأرض منه فللمالك القلع في الحال، فإن لم يقلع حتى مضت المدة فله أخذه بالكراء الأول وما بين القيمتين. اهـ. وفي المدونة أن الشعير أضر من القمح، وفي المتيطية يجوز أن يكتري الأرض ليزرع فيها ما شاء ولا كلام لربها بعد ذلك، فإن قال ليزرعها وسكت عما يزرع فيها فذلك جائز ولا يزرع فيها إلا ما يشبه أن يزرع في مثلها، فإن شرط أن يزرعها شعيراً فلا يزرعها إلا ذاك أو ما مضرته كمضرة الشعير أو أقل، فإن زرعها ما هو أضر بها فلربها كراء الشعير وقيمة زيادة الضرر. اهـ. وقوله: فلربها كراء الشعير إلخ. يعني إذا مضت مدة الزراعة وإلاّ فربها مخير كما مر عن الجواهر، وهذا بمنزلة من اكترى راحلة ليحمل عليها شيئاً فأراد أن يحمل عليها غيره المشار له بقول (خ): وفعل المستأجر ومثله ودونه لا أضر إلخ. وقوله: حتى مضت المدة يعني حتى فات إبان الزراعة. ابن عرفة: وحال المكتري في حرثه الأرض كحال مسألة من حرث أرض غيره بغير إذنه.
وحاصلها، إن قام ربها في الأبان وأقر الحارث بالعداء فلربها أمره بقلعه إن كان ينتفع به، ولا يجوز له أخذه بقيمته مقلوعاً لأنه بيع له قبل بدو صلاحه، وأجازه التونسي وهو خلاف مذهبها وإن لم ينتفع به فلربها أخذه مجاناً، وإن ادعى حرثها بغير اكتراء منه لكن بعلمه وحضوره وهو لا يغير ولا ينكر، فإن حلف ربها على نفي العلم فكما مرّ، وإن نكل حلف الحارث وبقي له زرعه ولربها كراء المثل وإن ادعى حرثها باكتراء منه فإن حلف ربها على نفيه فكما مر وإن نكل حلف الحارث لقد أكراها منه بكذا كان ما ادعاه من الكراء قليلاً لا يشبه أو كثيراً أكثر من كراء المثل، وإنما كان القول قوله حيث ادعى ما لا يشبه لأن ربها قد مكنه من ذلك بنكوله. هذا هو المشهور وإن ادعى أنه اكتراها منه وأنه حرثها بعلمه حلف ربها على نفيهما وخير في أخذه بما أقر به من الكراء وأخذه أرضه ويأمره بقلع زرعه إن انتفع به، وإن لم يكن له به منتفع أخذه رب الأرض مجاناً ولا يجوز تركه للمكتري بما أقر به من الكراء ولا بكراء المثل لأنه بيع له بما يأخذه من الكراء، وإن نكل حلف الحارث فإن نكل أخذ رب الأرض أرضه، ولو قال رب الأرض أحلف أني ما علمت بحرثه ولا أحلف أنه ما اكترى مني لم يمكن من ذلك إلا أن ينكل الحارث عن اليمين ثم قال: ولو قام بعد الأبان فإن صدقه أنه لم يكن منه كراء فله كراء المثل دون يمينه ادعى حرثه بحضوره وعلمه أم لا. وإن ادعى أنه أكراها منه لا أنه حرثها بعلمه حلف ربها، وأخذ كراء المثل فإن نكل حلف الحارث على ما ادعى من الكراء. اهـ. وقوله: وأجازه التونسي إلخ. يعني لأن التونسي قال: الأشبه أن يجوز لرب الأرض شراء ما فيها قبل بدو صلاحه لأن الأرض ملك له فصار مقبوضاً بالعقد وما يحدث فيه من نماء إنما هو في ضمان مشتريه لكونه في أرضه، وإنما منع النبي (صلى الله عليه وسلم) من بيع الثمار قبل بدو صلاحها لكون ضمانها من البائع لأنها في أصوله، وعلى هذا التعليل أجاز عبد الملك شراء جنان فيه ثمرة بقمح أو بجنان آخر فيه ثمرة تخالفها لأن كل ثمرة مقبوضة. قال العبدوسي: وأخذ الشيوخ مما قاله التونسي جواز شراء صاحب الزرع نصيب الخماس قبل بدو صلاحه لأنه قابض له بنفس الشراء وعلى مذهبها فلا، وقياس التونسي لا يعول عليه لأنه قياس مع وجود النص من الشارع صلوات الله وسلامه عليه على منع ما لم يبد صلاحه. اهـ.
ومُكْتَرٍ أرْضاً وبَعْدَ أَنْ حَصَدْ ** أصَابَ زَرْعَهُ انْتِثَارٌ بالبَرَدْ

(ومكتر أرضاً) فزرعها (وبعد أن) طاب زرعها وقبل أن يحصده المكتري أو بعد أن (حصد) ه وجعله قثاء في الفدان أو الأندر (أصاب زرعه) في الحالتين (انتثار بالبرد) ونحوه.
فَنَابِتٌ بَعْدُ مِنَ المُنْتَثِرِ ** هُوَ لِرَبِّ الأرْضِ لا للْمُكْتَري

(فنابت بعد) في السنة القابلة (من) ذلك الزرع (المنتثر هو لرب الأرض) المالك للفدان أو الأندر (لا للمكتري) على الأصح، وهو مذهب ابن القاسم في العتبية، وقيل: يكون لزارعه وعليه لرب الأرض كراؤها كما إذا تمت السنة وله زرع أخضر، وظاهر النظم أنه لرب الأرض ولو انتثر كله بالبرد وهو كذلك ففي سماع عيسى: من اكترى أرضاً فزرعها فلما استحصد زرعه أتاه برد أسقط حبه كله في الفدان فأخلف فهو لرب الأرض لا للمكتري لأن سنته قد انقضت كقول مالك فيمن جر السيل زرعه لأرض غيره فنبت، ابن رشد القياس صحيح، ولا فرق بينهما لأن البذر مستهلك في كلتا الحالتين لا يقدر صاحبه على أخذه من أرض غيره، ومعنى قوله في المدونة: جر السيل زرعه أي بذره لقوله: فنبت لأن الزرع لا يقال فيه نبت. اهـ. وإلى المسألتين أشار (خ) بقوله: وإن انتثر للمكتري حب فنبت قابلاً فهو لرب الأرض كمن جره السيل إليه إلخ. والضمير في قوله جره يعود على الحب أي البذر، وأما إذا جره إليه بعد نباته فقيل: هو لرب الأرض أيضاً، وظاهر الشامل أنه المشهور، وقيل هو لزارعه ورجحه الرهوني في حاشيته مستدلاً على ذلك بأنقال، ولكن لا يظهر منها ما أشار له من الترجيح لمن تأمل وأنصف والله أعلم. ولا مفهوم لقول الناظم بالبرد، بل لو انتثر بسبب الحصاد لكان لرب الأرض أيضاً. أبو الحسن: اتفاقاً لأن شأن الحصاد أن ينتثر منه الحب والعادة أن من تركه لا يعود إليه أي: فلا يجري فيه الخلاف الجاري في المنتثر بالبرد، ومفهوم قوله: انتثار أنه إذا زرع ولم ينبت في سنة بذره ونبت في السنة القابلة أن الزرع لا يكون للمكتري بل لربه وهو كذلك وعليه كراؤه وكراء العام الذي لم ينبت فيه إن كان لغير عطش قاله (ز) وأصله لابن بشير فإن زرع في أرضه خلاف ذلك النوع فنبتا معاً فلكل زرعه إن عرف وتبعيض الكراء عليهما انظر الشامل وشرحه. ومفهوم قوله: فنابت أنه إذا أنجر إليها حب من الأندر ولم ينبت بل لا زال على وجه الأرض فلربه أخذه ولا يكون لرب الأرض، وأما الشجر يجره السيل لأرض الغير فينبت فيها فليس حكمه حكم الزرع، بل ينظر فإن كانت إن وقعت وردت إلى أرضه نبتت فيها فله قلعها وإلاَّ فللآخر دفع قيمته حطباً أو أمره بقلعه قاله سحنون.
تنبيه:
من اشترى قصب فول ليوقده فنزل المطر فحيي القصب واخضر وأثمر فولاً فهل هو للمشتري أو لربه؟ قال في صدر معاوضات المعيار عن الفقيه الجعد: أنه يفسخ البيع ويكون الفول لرب القصب ويرد الثمن. اهـ. باختصار.
قلت: الجاري على ما تقدم أنه إن حيي القصب نفسه فثمره للمشتري وعليه لرب الأرض كراء المثل مدة بقائه بعد عقد الشراء فيه لأنه إنما اشتراه ليأخذه في الحين فتركه حتى أثمر يوجب الكراء عليه ولا وجه لفسخ البيع فيه، وإن كان القصب حيي من غير أصوله فلا إشكال حينئذ أن ثمره لرب الأرض ولا يفسخ البيع أيضاً لأن القصب المشترى لا زال يابساً يجزه مشتريه ويأخذه فتأمله والله أعلم.
وَجائِزٌ كِراءُ الأرْضِ بالسَّنَه ** وَالشّهْرِ في زَرَاعَةٍ مُعيِّنه

(وجائز كراء الأرض بالسنة) مسانهة ككل سنة بكذا أو معينة كهذه السنة كما مر في كراء الدور، ثم إن عينت وحدت باثني عشر شهراً أو بستة أشهر مثلاً فواضح أنها لا تنقضي إلا بتمامها وإن لم تحد، وإنما قال: أكتري منك أرضك هذه السنة أو السنة التي بعد هذه فإن كانت أرض مطر فتتم السنة فيها بالحصاد للزرع الذي اكتريت له كانت تزرع مرة في السنة أو مراراً ولا ينتظر مرور الاثني عشر والحصاد في كل شيء بحسبه أي بحصده أو قطعه أو جذه أو رعيه كالزرع والبرسيم واللفت والكمون ونحو ذلك، فلو كان مما يخلف بطوناً فتتم السنة فيها بآخر بطن، وإن كانت أرض سقي فتتم فيها بالشهور الاثني عشر، فإن تمت الشهور المعينة أو التي لم تعين حيث كانت أرض سقي وله فيها زرع أخضر فيلزم رب الأرض أن يبقيه فيها إلى تمام طيبه، وعلى المكتري كراء المثل فيما زاد على تلك الشهور، وقيل من حساب الكراء الأول (خ): والسنة في المطر بالحصاد، وفي السقي بالشهور فإن تمت وله زرع أخضر فكراء مثل الزائد إلخ... وظاهره أن عليه كراء المثل في الزائد ولو علم عند الزراعة أن الزرع إنما يتم بعد السنة بكثير وهو كذلك على المعتمد قاله (ز). قال (م): ومن اكترى داراً أو حانوتاً أو غيرهما لمدة معينة فتمضي ويبقى المكتري ساكناً على المساكنة فيجري حكمه على ما تقدم فالجاري على المشهور أنه يلزمه كراء مثل الزائد، وقيل من حساب الكراء الأول واستظهرت أن له في هذه بحساب الكراء الأول.
قلت: وهو ما عليه الناس اليوم لأن رب الأرض في الأولى مجبور على بقاء الزرع في أرضه وفي هذه لا جبر على رب الدار والحانوت ونحوهما فتركه ساكناً بعد انقضاء المدة رضاً منه أن له بحساب الأول واستمرار المكتري ساكتاً رضا منه أيضاً بدفع ذلك والله أعلم.
(والشهر) أي وجائز الكراء لشهر معين أو كل شهر بكذا، ثم إذا كان كل من السنة والشهر معيناً كهذه السنة أو هذا الشهر فلا إشكال في لزوم الكراء بالعقد وليس لأحدهما الانحلال إلا برضا صاحبه، إن كان كل منهما غير معين ككل شهر بكذا أو كل سنة بكذا فلا يلزم بالعقد ولكل الانحلال ما لم يحرث المكتري كما مر في كراء الدور وأول السنة أو الشهر من حين العقد إن كانت خالية من مزروع، وإلاَّ فمن يوم تخلو منه، وهذا إذا كانت تزرع في السنة كلها وإلاَّ فأولها وقت الزراعة (في زراعة معينة) أي لابد من تعيين ما يزرعه فيها حيث لم يكن عرف، وكأن بعض المزروع أضر من الآخر كما مر عن الجواهر.
ومُتَوالِي القَحْطِ والأمْطَار ** جائِحةُ الكِراءِ مثْلُ الفَارِ

(وبتوالي القحط والأمطار) خبر عن قوله (جائحة الكرا) ء وقوله (ومثل الفار) بالجر عطف على بتوالي ومعناه أن من اكترى أرضاً للزراعة فتوالى إلى القحط عليها أي عدم المطر ولو بعد زراعتها في الأبان أو توالي المطر عليها فغرقت حتى فات أبان حراثتها، أو هلك زرعها النابت فيها بدود أو فار، أو وقعت فتنة منعته من زراعتها فإن ذلك كله جائحة توجب سقوط الكراء عن المكتري كما قال:
ويَسْقُط الكِراءُ إمَّا جُمْلَهْ ** أَوْ بِحِسَابِ ما الفَسَادُ حَلَّهْ

(ويسقط الكراء) بما ذكر من القحط وما بعده (إما جمله) وذلك إذا أجيح الزرع كله (أو) يسقط منه (بحساب ما الفساد حله) حيث لم يجح جميعه، وظاهره ولو قل المجاح فإنه يسقط عنه بحصته وهو كذلك وليس ذلك كجائحة الثمار، وأما إن أجيح الجل وسلم القليل كخمسة أفدنة أو ستة من مائة فدان فإنه لا كراء عليه أصلاً كما قال (خ): عكس تلف الزرع لكثرة دودها أو فارها أو عطش أو بقي القليل إلخ. وظاهر كلام ابن يونس وغيره أنه لا فرق بين أن تكون الفدادين السالمة القليلة في ناحية واحدة أو في نواح متفرقة. وقال اللخمي: إنما يسقط عنه الكراء جملة إذا كانت متفرقة لأن كثيراً من الناس لا يتكلف جمعها، وأما إن كانت مجتمعة في ناحية فعليه من الكراء ما ينوبها.
وَلَيْسَ يَسْقُطُ الكِرَا في مُوجَدِ ** بِمِثْلِ صَرٍ أَوْ بِمِثْلِ بَرَدِ

(وليس يسقط الكرا في) أي بسبب (موجد) بفتح الجيم (بمثل صر) وهو البرد الشديد أو الحر الشديد (أو بمثل برد) وهو مطر منعقد وأدخل لفظ مثل الطير والجليد والغاصب والسارق والجيش والجراد لكن محل عدم جائحة الجراد إنما هو إذا أتى بعد أبان الحراثة وإلا بأن أتى في أبانها فمنعته من الزراعة خيفة أن يؤذي هو أو ولده ما يخرج منها فلا كراء عليه قاله الباجي وغيره. ومحل عدم السقوط بما ذكره من البرد وما معه إذا لم تقحط السماء، وأما إمن أجيح بشيء مما ذكر فقحطت السماء حتى إنه لو لم يجح لم يتم الزرع لأجل القحط فإنها لا تسقط كما أفتى به ابن رشد، وقال البرزلي: وكذا لو استهلك شخص زرعها ثم أصابه قحط بحيث لو بقي لهلك ذلك الزرع بالقحط فإنه لا يضمن قيمة الزرع على الرجاء والخوف، وإنما سقط الكراء بالقحط والغرق والفار ولم يسقط بالبرد وما معه، لأن هذه عاهة لا سبب للمكري فيها من قبل مائه ولا من قبل أرضه، فذلك كغاصب غصب الزرع خاصة بخلاف القحط وما معه فإن لأرضه سبباً فيه والقحط والفار جائحة مطلقاً بخلاف الغرق، فإنما هو جائحة إذا كان في الأبان فإن زال قبل فوات الأبان أو حدث بعده لزمه الكراء كما قال (خ): أو غرق بعد وقت الحرث أو عدمه بذراً.
تنبيه:
إذا أصابته الجائحة فلا حق للمكتري في قليلها كما يأتي في المزارعة، والله أعلم.